فصل: خامسًا‏:‏ وما تدري نفس بأي أرض تموت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


مفاتح الغيب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين أما بعد‏.‏‏.‏‏.‏

نتكلم في هذا الدرس إن شاء الله ـ تعالى ـ عن مفاتح الغيب‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏، وقد بينها النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث تلا قوله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ ‏.‏

هذه مفاتح الغيب، وسميت مفاتح لأن كل واحد منها فاتحة لشيء بعده‏:‏

{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏، فالساعة فاتحة للآخرة التي هي النهاية‏.‏

‏{‏وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ‏}‏، والغيث فاتحة لحياة النبات‏.‏

{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ‏}‏، فاتحة لحياة كل شيء‏.‏

{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا‏}‏، فاتحة للمستقبل‏.‏

{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏، فاتحة لقيامة كل إنسان بحسبه، علم الساعة‏:‏ القيامة العامة، وأما قوله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏، فهو فاتحة لقيامة كل إنسان، لأن من مات فقد قامت قيامته‏.‏

أولًا‏:‏ إن الله عنده علم الساعة‏:‏

علم الساعة لا يمكن لأحد أن يدركه إلا الرب ـ عز وجل ـ، فها هو أفضل الرسل من الملائكة جبريل يسأل أفضل الرسل من البشر محمدًا، صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ أخبرني عن الساعة‏؟‏ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما المسؤول عنها بأعلم من السائل‏)‏‏.‏ أي علمي وعلمك فيها سواء، فكما أنك لا تعلمها فأنا كذلك لا أعلمها، ولهذا من ادعى علم الساعة فهو مكذب للقرآن، ومكذب للسنة، ومكذب لإجماع المسلمين وخارج عن المسلمين‏.‏

يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ وقال ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏، وتقديم الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏، يفيد الحصر، لأن من طرق الحصر تقديم ما حقه التأخير‏.‏

ومن صدق من ادعى علم الساعة فهو كافر أيضًا، لأن من صدق من يكذب بالقرآن أو بالسنة فقد كذب القرآن والسنة، وعلى هذا فلا يمكن أن نصدق شخصًا يدعي أنه يعلم متى تكون الساعة، ومن صدقه فهو كافر لتكذيبه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين‏.‏

لكن هل للساعة علامات‏؟‏

فالجواب‏:‏ نعم قال ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ‏}‏ ‏.‏

ثانيًا‏:‏ نزول الغيث

‏{‏وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ‏}‏ وهنا لم يقل‏:‏ يعلم نزول الغيث، بل قال‏:‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ‏}‏، وإذا كان تنزيل الغيث ليس لأحد سوى الله، فعلم نزوله ليس لأحد سوى الله ـ عز وجل ـ‏.‏

ولكن قد يقول قائل‏:‏ ما الحكمة في أن الله ـ عز وجل ـ قال في الساعة‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏، وفي الغيث قال‏:‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ‏}‏، دون أن يقول‏:‏ ويعلم نزول الغيث‏؟‏ مع أن عدم العلم بنزول الغيث مستفاد من كون الذي ينزل الغيث هو الله وحده، فإذا كان الذي ينزل الغيث هو الله وحده لزم من ذلك أنه لا يعلم أحد نزول الغيث إلا من ينزله‏؟‏‏.‏

لكن الحكمة والله أعلم أن الذي ينفع الناس ويستفيد الناس منه ويلمسونه بأيديهم هو الغيث وهو الذي يكون مفتاحًا لحياة الأرض‏.‏

إذًا لا يعلم متى ينزل المطر إلا الله، لأن الذي ينزل المطر والغيث هو الله‏.‏

لكن يرد علينا أننا نسمع في الإذاعات، يقولون‏:‏ سينزل غدًا مطر في جهات معينة، فهل هذا ينافي أن علم نزول الغيث خاص بالله‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن هذا يشكل على كثير من الناس، فيظن أن هذه التوقعات ـ التي تذاع في الإذاعات ـ يظن أنها تعارض قول الله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ‏}‏، والحقيقة أنها لا تعارض ذلك، لأن علمهم بهذا علم مستند إلى محسوس لا إلى غيب، وهذا المحسوس هو أن الله ـ عز وجل ـ حكيم، كل شيء يقع له سبب، فالأشياء مربوطة بأسبابها، فقد تكون الأسباب معلومة لكل أحد، وقد تكون معلومة لبعض الناس، وقد تكون غير معلومة لأحد، فإننا لا نعلم سبب كل شيء وحكمة كل شيء، المطر إذا أراد الله ـ عز وجل ـ إنزاله، فإن الجو يتغير تغيرًا خاصًا، يتكون معه السحاب، ثم نزول المطر، كما أن الحامل عندما يريد الله ـ عز وجل ـ أن يخرج منها الولد فإن الجنين ينشأ في بطنها شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الغاية، فهؤلاء عندهم مراصد دقيقة، تلامس الجو، ويعرف بها تكيف الجو، فيقولون إنه سيكون مطر، ولهذا نجدهم لا يتجاوز علمهم أكثر من ثمان وأربعين ساعة هذا أكثر ما سمعت، وإن كان قد قيل‏:‏إنهم وصلوا إلى أن يعلموا مدى ثلاثة أيام، على كل حال فعلمهم محدود، لأنه مبني على أسباب حسية لا تدرك إلا بواسطة هذه الآلات، ونحن مثلًا بحسنا القاصر إذا رأينا السماء ملبدة بالغيوم، ورأينا هذا السحاب يرعد ويبرق، فإننا نتوقع أن يكون ذلك مطرًا، هم كذلك يتوقعون إذا رأوا في الجو تكيفًا معينًا يصلح معه أن يكون المطر وحينئذ لا معارضة بين الآية وبين الواقع، على أنهم أيضًا يتوقعون توقعًا فربما يخطئون وربما يصيبون‏.‏

ثالثًا‏:‏ ويعلم ما في الأرحام

أولًا‏:‏ قوله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ‏}‏، ‏{‏ما‏}‏ اسم موصول يفيد العموم، وتعلق العلم بهذا العام هو تعلق عام أيضًا، فعلم ما في الأرحام لا يقتصر على علم كونه ذكرًا، أو أنثى، واحدًا أم متعددًا، بل علم ما في الأرحام أشمل من ذلك، فهو يشمل كونه ذكرًا أو أنثى، يشمل كونه واحدًا أو متعددًا، يشمل يخرج حيًا أو يخرج ميتًا، يشمل أن هذا الجنين سيبقى مدة طويلة في الدنيا أو مدة قصيرة يشمل أن هذا الجنين سيكون ذا مال كثير أو فقر مدقع، يشمل أن هذا الجنين سيكون عالمًا أو جاهلًا، فكل ما يتعلق بهذا الجنين يدخل في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ‏}‏ فهو شامل عام خاص بالله ـ تعالى ـ‏.‏

ولكن يشكل على هذا أنه في عصرنا الحاضر توصل الطب إلى أن يعلم أن مافي بطن هذه الأنثى ذكر أو أنثى فهل يبقى معارضة في الآية‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه ليس هناك معارضة للآية، لأنهم لا يعلمون أنه ذكر أو أنثى إلا بعد أن يكون ذكرًا أو أنثى، أما قبل ذلك فلا يستطيعون العلم بأنه ذكر أو أنثى، وإذا كان ذكرًا أو أنثى وخلق ذكرًا أو خلق أنثى فإنه يكون من عالم الغيب عند أكثر الناس، ويكون من عالم الشهادة عند من يحصل له العلم بذلك، فالملك مثلًا يرسله الله ـ تعالى ـ إلى الرحم، ويعلمه الله ـ عز وجل ـ أنه ذكر أو أنثى، يقول‏:‏ يارب ذكر أو أنثى فيأمره الله ـ تعالى ـ بما أراد، فصار هذا علم شهادة بالنسبة للملك، وقبل أن يكون ذكرًا أو أنثى فهو علم غيب حتى بالنسبة للملائكة‏.‏

إذًا يكون علم شهادة بواسطة تقدم الطب لا يعارض الآية الكريمة‏.‏

وبهذه المناسبة أود أن أقول لكم‏:‏ كل ما جاء به القرآن، وصحت به السنة، فإنه لا يمكن أن يعارض الواقع‏.‏

رابعًا‏:‏ وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا‏؟‏

وانظر إلى التعبير بقوله‏:‏ ‏{‏مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا‏}‏، فإن الإنسان قد يدري ماذا سيعمل غدًا، لكنه لا يدري هل سيكسب ذلك العمل أم لا‏.‏ فلو أن شخصًا عنده عمل في المكتب، ومرتب شؤونه، وقال‏:‏ غدًا أول شيء أعمله كذا وكذا، فإنه يكون قد علم ماذا يعمل غدا، ولكنه لا يعلم هل سيكسب ذلك العمل ويحصل له أم لا، ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا‏}‏ ‏.‏

فأنت قد تخطط لعمل مستقبل كغد مثلًا، لكن لا تكسبه، فقد يحول بينك وبينه مانع من موت، أو مرض، أو شغل آخر ترى أنه أقدم منه أو ما أشبه ذلك‏.‏

خامسًا‏:‏ وما تدري نفس بأي أرض تموت

وصدق الله فلا أحد يستطيع أن يحكم بأنه سيموت في الأرض الفلانية، فقد يقول الإنسان‏:‏ أنا لن أخرج من بلدي فسأموت في بلدي، لكن هذا قد لا يتم فأحيانًا يكون الإنسان في بلده لا يخرج أبدًا منها، فيمرض، وتحدثه نفسه وتحدوه همته وعزيمته إلى أن يسافر للعلاج، فإذا وصل إلى البلد الذي قرر أن يتعالج فيه مات فور وصوله، وهذا موجود ويحدث إذًا فهو لا يعلم بأي أرض يموت، ومن باب أولى أيضًا فإنه لا يعلم في أي وقت يموت، لأن الإنسان يتصرف في مكانه، فربما يقول قائل‏:‏ إذا أحس بالموت ورأى أنه لا شفاء له مثلًا قال‏:‏ أذهب إلى الأرض الفلانية وأموت فيها، فإذا كان لا يعلم هذا فما بالك بالزمن الذي لا يمكن تحديده أبدًا‏؟‏‏!‏ فالذي لا يعلم المكان لا يعلم الزمان من باب أولى‏.‏

ولقد جرت مسألتان إحداهما أدركتها أنا، والثانية حدثت بها من ثقة‏.‏

أما الأولى‏:‏ فإنه كان راكبان على دباب ـ دراجة نارية ـ يمران بشارع فرعي، وهناك سيارة تمر بالشارع العام، فلما رأى صاحب السيارة هذا الدباب وقف من أجل أن يعبر الدباب، والراكبان على الدباب لما رأيا السيارة وقفا لتعبر السيارة، فهذا تصرف سليم، لكنه في خلال دقيقة أو دقيقتين تحركت السيارة وتحرك الدباب واصطدما، فمات أحد الراكبين، فبماذا نفسر هذه الواقعة‏؟‏

نفسرها بأن هذا الرجل الذي مات بقي له من عمره دقيقتان أو دقيقة، لو شاء الله ـ عز وجل ـ لعبر كل من السيارة والدباب بسلام، أو لعبرا من أول ما التقيا بسرعة وحصل الحادث، لكن حصل التوقف لمدة دقيقة أو دقيقتين من أجل أن يستكمل الأجل لهذا الذي مات، وهذه من آيات الله ـ عز وجل ـ قال النبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها‏)‏‏.‏

أما المسألة الثانية‏:‏ فقد حدثني بها من أثق به، فقد كان الناس في السابق يأتون مكة عن طريق البر على الجمال وكان الناس في ذلك الوقت ينزلون جميعًا ويسيرون جميعًا، لأن البلاد غير آمنة تمامًا، يقول‏:‏ فخرج الحجاج إلى مكة، وكانوا يمشون في الريعان ـ أي الجبال والأودية ـ على حدود الحجاز من نجد، وكان أحد القوم معه أمه مريضة وهو يمرضها، فسار الناس من مكان نزولهم ليلًا، وهو جالس يمرض أمه، ويمهد لها الفراش من أجل أن تنام على الراحلة مستقرة، ولما أكمل رحل المركب لأمه مشى، ولكنه أخطأ القوم، لأنهم تجاوزوا كثيرًا، يقول‏:‏ فدخل في طريق جادة صغيرة مع أحد الريعان، وصار يمشي وهو يظن أنه على إثرهم حتى ارتفعت الشمس، وخاف على نفسه من العطش، فتبدى ـ ظهر ـ له خباء بدو ـ أي خيمة صغيرة ـ فاتجه إليها ووصل إليهم، وقال‏:‏ أين طريق الحجاج‏؟‏ قالوا له‏:‏ طريق الحجاج وراءك، لكن انزل أنت والمرأة معك حتى تستريح وندلك فنزل بأمه يقول‏:‏ فما أن وضع أمه على الأرض حتى فاضت روحها، سبحان الله العظيم، فمن يقول‏:‏ إن امرأة من القصيم تأتي إلى الحجاز إلى هذه الأماكن التي قد لا يحلم أن يصل إليها، حتى تموت في هذا المكان‏؟‏‏!‏ ‏{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

هذه مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله ـ عز وجل ـ‏.‏ والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‏.‏